موضوع: قضايا الاعتقاد الأساسية، أن الله سبحانه لم يخلق هذا الكون عبثاً، وإنما 16/1/2012, 15:06
من قضايا الاعتقاد الأساسية، أن الله سبحانه لم يخلق هذا الكون عبثاً، وإنما خلقه وأقامه على سنن تدبر أمره، وتسير شأنه، ومفتاح ذلك قوله سبحانه: { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } (الفرقان:2).
ويزخر القرآن الكريم بتأصيلات فائقة في موضوع السنن، فهو دائماً يوجه الأنظار والأفكار إلى استنطاق التاريخ، واستقراء الحوادث والأسباب التي خفضت أقواماً، ورفعت آخرين.
ومفهوم (السننية) مستفاد من العديد من الآيات الدالة على أن الحياة الإنسانية مرتبطة بنواميس وقوانين، من عمل بأسبابها، وأخذ بشروطها، استقامت له الحياة، ومن لم يعمل بتلك الأسباب، ولم يأخذ بشروطها، اختل نظام الحياة.
فمن خلال سنن الله التي بثها في كتابه، نعي العوامل التي تجعل المجتمع سليماً معافاً، وتحفظه من الفساد الاجتماعي، والانحلال الأخلاقي.
إذن، (السننية) كمفهوم قرآني يقصد به، أن حياة الأمم وسعادتها في الدارين مرتبطة بمدى تقيد هذه الأمم بقوانين الحياة، المتعلقة بمفاهيم الاستخلاف والتسخير والعبودية.
ومن الآيات المقررة لمفهوم (السننية) قوله تعالى: { قد خلت من قبلكم سنن } (آل عمران:137)، وقوله سبحانه: { سنة الله التي قد خلت في عباده } (غافر:85)، وقوله عز من قائل: { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } (الفتح:23). وغير ذلك من الآيات، التي تفيد أنه سبحانه أقام حياة الإنسان على سنن (قوانين) دقيقة، لا تحابي أحداً، فرداً كان أم مجتمعاً.
وعلى الرغم من أن موضوع (السننية) في القرآن الكريم - فيما نحسب - من أهم القضايا الجديرة بالبحث، إلا أنه لم يلق من المفسرين المتقدمين العناية اللائقة به. أما المفسرون المعاصرون، فإن الشيخ محمد رضا - فيما وقفنا عليه - هو أول من نبه على هذا الموضوع في تفسيره "المنار"، حيث ذكر عند تفسيره لقوله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ما حاصله: أن إنعام الله على الأقوام والأمم منوطة ابتداء ودواماً بأخلاق وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الأخلاق والأعمال متمكنة منهم، كانت تلك النعم ثابتة ومستقرة، ولم يكن لينـزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم أو ذنب، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك الأخلاق والأعمال، غيَّر الله ما بأنفسهم، وأخذ منهم ما أنعم به عليهم.
ثم إن سيد قطب رحمه الله تابع الشيخ رشيد رضا في التنبيه على مفهوم (السننية) في القرآن، وبنى على أساس هذا المفهوم تفسير العديد من الآيات، ومما قاله في هذا الصدد: "والقرآن الكريم يرد المسلمين إلى سنن الله في الأرض. يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور. فهم ليسوا بدعاً في الحياة; فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافاً، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام. واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق. ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين; بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول".
أما ابن عاشور فقد أشار إلى هذا الموضوع إشارة عابرة، ولم يتوسع في بيانه وأمثلته القرآنية، ومما ذكره في هذا الشأن ما جاء عند تفسيره لقوله تعالى: { قد خلت من قبلكم سنن }، قال: "في الآية دلالة على أهمية علم التاريخ؛ لأن فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها".
والمتتبع لمفهوم (السننية) في القرآن، يجد أنها على أنواع أربعة:
فهناك السنن الكونية، وهي سنن تتعلق بنظام الكون وتركيبه، كقوله تعالى: { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } (يس:37)، فتعاقب الليل والنهار آية كونية ثابتة لا تحيد، أقام الله عليها هذا الكون. وقوله سبحانه: { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } (الأعراف:57). وسقوط الإمطار نتيجة تراكب وتراكم عدة عوامل آية كونية من الآيات التي أقام الله عليها نظام هذا الكون.
والسنن الكونية يُطلق عليها في القرآن عادة (آيات)، كما قال تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } (فصلت:53). وأهم سمة لهذه السنن (الآيات)، أنها تمثل قانوناً ثابتاً، يمثل قوانين الحياة الأساسية التي وجدت لخدمة الإنسان.
وهناك (السنن الكلية)، وهي السنن التي جعلها الله تعالى مفتاحاً لقيام الحضارات بمفهومها الشامل، من ذلك قوله سبحانه: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } (الأعراف:96). فهذه الآية تقرر أن قيام الحضارات الحقيقي إنما يكون أولاً وقبل كل شيء على أساس الإيمان والتقوى، فإذا فُقِدَ هذا الأساس فلا حضارة البتة، وإذا رأينا شيئاً يُطلق عليه الناس حضارة، ويقوم على غير هذا الأساس، فهو عند التحقيق والتدقيق حضارة زائفة خادعة، لا رصيد لها من المصداقية، ولا تملك مقومات البقاء والاستمرار.