فلقد هَدَى اللهُ الناسَ ببركةِ نُبَوَّةِ محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبما جاء به مِنَ البَيِّناتِ والهُدَى هِدايةً جَلَّت عن وصف الواصفين ، وفاقت معرفة العارفين ، حتى حَصَلَ لأمته المؤمنين به عُمومًا ، ولأُولي العلم منهم خُصوصًا مِنَ العلم النافع ، والعمل الصالح ، والأخلاق العظيمة ، والسُّنَنِ المستقيمة ، ما لو جُمِعَت حِكمةُ سائر الأمم عِلمًا وعَملاً - الخالصة مِن كل شَوْب - إلى الحِكمةِ التي بُعِثَ بها ، لتَفَاوتا تفاوتاً يمنعُ معرفة قَدْرِ النِّسبةِ بينهما ، فللّهِ الحمدُ والمِنَّةُ كما يُحِبُّ رَبُّنا ويَرضَى " اقتضاء الصراط المستقيم / ص3 .
فهو المبعوثُ بالهُدَى ودِين الحق بين يدي الساعةِ بشيرًا ونذيرًا ، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا ، فكَمَّلَ الله به الرسالة ، وهَدَى به من الضلالة ، وعلَّمَ به من الجهالة ، وفتح برسالته أعيُنًا عُميًا ، وآذانًا صُمًّا ، وقُلوبًا غُلْفًا ، فأشرقت برسالته الأرضُ بعد ظُلُماتها ، وتألَّفَت به القلوبُ بعد شَتاتها ، فأقام بها المَلَّةَ العَوجاء ، وأوضح بها المحجة البيضاء ، فبَيَّنَ عن طريقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - الكُفرَ من الإيمان ، والرِّبح من الخسران ، والهُدَى من الضلال ، وأهلَ الجنةِ مِن أهل النار ، والمتقين من الفُجار ، فهو المبعوثُ رحمةً للعالمين ، ومحجةً للسالكين ، وحُجَّةً على الخلائق أجمعين . ولقد نَوَّه الله عز وجل في كتابه الكريم بهذه النعمة العظمى التي امتَنَّ بها على هذه الأمة في آيات كثيرةٍ مِنها :
قولُه تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } آل عمران/164 .
وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الجُمعة/2-3-4 .
وقال تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } البقرة/151-152 .
وقال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } التوبة/128 .
وإنما كان إرسالُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الناس أعظمَ مِنَّةٍ امتَنَّ بها على عباده ؛ لأنَّ في ذلك تخليصُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ وهداه منهم مِن العذاب السرمديِّ ، وذلك بسبب الإيمان بالله ورسوله ، والابتعاد عن كل ما يُوجِبُ دخولَ النار ، والخلود فيها .
ولذلك فإنَّ الناسَ أحوجُ ما يكونون إلى الإيمان بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ، والأخذ بما جاء به من الدِّين ، فهم أحوجُ إلى ذلك من الطعام والشراب ، بل ومن نَفَسِ الهواء الذي يتنفَّسونه ؛ فإنهم متى فقدوا ذلك ، فالنارُ جَزاءُ مَن كَذَّبَ بالرسول ، وتولَّى عن طاعته ، كما قال تعالى : { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } الليل/14-15-16 ؛ أيْ : كَذَّب به ، وتولَّى عن طاعته ، فهم مُحتاجون إلى الإيمان بالرسول ، وطاعته ، والأخذ بما جاء به ، والالتزام بذلك في كل مكان وزمان ، ليلاً ونهارًا ، سَفَرًا وحَضَرًا ، سِرًّا وعلانيةً .
ولَمَّا كانت منزلةُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند ربِّه بهذه المرتبة ، وكانت حاجةُ الناس إليه بهذه الدرجة ، فقد أوجب اللهُ لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على هذه الأمة جُملةً من الحقوق والواجبات ، تُنَظِّمُ العلاقةَ التي تربطهم به تنظيمًا دقيقًا ، لا لَبْسَ فيه ولا اشتباه .
وهذه الحقوقُ منها ما يَتَّصِلُ بجانبِ الرسالة التي بُعِثَ بها ، ومنها ما يتعلَّقُ بخاصةِ شخص الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - تفضيلاً وتكريمًا من الله له .
وقد وردت في شأن تلك الحقوق نُصوصٌ كثيرةٌ في كتاب الله عز وجل ، وسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وضَّحت وفصَّلت وبيَّنت جوانبَ تلك الحقوق .
وهذه الحقوقُ في جُملتِها هي الأصلُ الثاني من أصلَيْ الدِّين ، كما يَدُلُّ عليه قولُنا " أشهدُ أن لا إله إلا الله ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله ".
ولذا فقد كان لِزامًا على كل مَن ينطقُ بهذه الشهادة ، ويَدِينُ اللهَ بهذا الدِّين ، أن يُحيطَ بتلك الحقوق مَعرفةً ، ويَلتزِمَ بها اعتقادًا وقَولاً وعَملاً ، فذلك عَقدٌ من عُقودِ الإيمان الذي لا يحصلُ إيمانُ العبد إلَّا به .
ومِمَّا يُؤسَفُ له أنَّ كثيرًا مِن المسلمين اليومَ ، هم على درجة كبيرة من الجهل بهذه الحقوق ، فتراهم لذلك على طرفيْ نقيض هذا المقام :
- فإمَّا مُقَصِّرٌ عن القيام بهذه الحقوق التي أوجبها اللهُ على الأمة ، فتراه لا يُقيم لها وزنًا ، ولا يُلقي لها بالاً .
- وإمَّا غَالٍ مُبتدِع مُنكَبٍّ على ما ابتدعه ، يَظُنُّ أنَّه بما يفعله مِن أمور مُبتدَعةٍ في هذا المقام ، قد أحسن صُنعًا ، وأنَّه مُؤَدٍّ لِمَا أوجبه اللهُ من حَقٍّ لنبينا محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وكِلا الطرفين صاحِبُ حالٍ مَذمومٍ غير محمود . فلَمَّا كان عامةُ أصحابِ هذين الطرفين إنَّما أوقعهم فيما هم فيه ، جَهلُهم بمعرفةِ تلك الحقوق على الوجه المطلوب شرعا ، ولَمَّا كانت هذه الحقوقُ هِيَ مِن جُملةِ هذا الدِّين الذي تَعَبَّدنا اللهَ به ، فكان لا بُدَّ فيها مِن تَوَفُّر شَرْطَي القَبول :
أ- الإخلاصُ .
2- الصوابُ ( الاتِّبَاع ) .
كما قال تعالى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } الكهف/110 .
فقد أحببتُ أن أُوَضِّحَ تلك الحقوق النبوية وِفقَ ما جاءت بذلك النصوصُ الشرعية ، وما كان عليه سَلَفُ هذه الأمة وأئمتُها ، عسى أن يكونَ في هذا البيان والتوضيح تعليمٌ للجاهِل ، وتذكيرٌ للغافِل ، وتحذيرٌ ورَدْعٌ للمُبتدِع ، ومُدارسةٌ للعارِف .
فأسألُ اللهَ عز وجل التوفيقَ والرشادَ ، وأن يَرزُقنا التَّمَسُّكَ بِسُنَّةِ نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم ، والسَّيرَ على هَدْيهِ ، والتَّأسِّي به ، وأن يشرحَ لذلك صُدُورنا ، ويُنيرَ قُلُوبنا ، إنَّه جَوادٌ كريم ، وعلى كل شيءٍ قدير .